You are here

مفهوم العدل في القرآن الكريم الكريم

الحمد لله رب العالمين الذي أرسل رسوله محمداً الأمين بالعدل والحق والرحمة للناس أجمعين، وبعد:

ترجع أهمية هذه الموضوع إلى أنه  يتكلم عن هدف من أهم الأهداف التي يسعى القرآن الكريم إلى تحقيقها بين الناس، كيف لا والعدل اسم من أسماء الله تعالى، أرسل الرسل وأنزل الكتب السماوية لتحقيقه، قال تعالى: " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ"، (سورة الحديد، آية 25).

إنَّ قيمة العدل في الإسلام من القيم الكبرى والمهمة، وسنبين في هذه الكلمة مفهوم العدل في الإسلام، وأهميته، ودوره في استقرار الأمن والسلام.

أولا: تعريف العدل في الإسلام وعدد الآيات التي تحدثت عنه:

-العدل: هو إعطاء الإنسان نفسه أو غيره أو الأشياء حقها التي تستحقه وتتطلبه كما حدد الله تعالى، وقد يتحقق العدل بالمساواة وقد يتحقق بالاختلاف حيث يُعطى الشخص ما يستحق حسب جُهده وحاجته.

- وقد تحدث القرآن الكريم عن العدل ومجالاته في الحياة في 300 آية قرآنية، كما في قوله تعالى"  إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، [النحل: 90]، وقوله تعالى لرسوله الكريم: " {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [الشورى: 15]

وتحدث القرآن الكريم في 700 آية عن التحذير من الظلم بكل مجالاته وأنواعه، قال تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم".، وقد نزَّه الله سبحانه نفسه عن الظلم، قال تعالى: {من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلامٍ للعبيد} (سورة فصلت:46)، وقال سبحانه: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} (سورة النساء:40)، وقال: {وما الله يريد ظلمًا للعالمين} (سورة آل عمران:108).

-ومن أهم العقائد في الإسلام عقيدة اليوم الآخر والحساب والتي يتحقق فيها عدل الله تعالى المطلق وإنصاف المظلوم من ظالمه، حيث يُجزى كل إنسان بما قدَّم من أعمال في الدنيا، ويوفَّى الناس حقوقهم، قال تعالى: " {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، سواء كان رجلاً أم امرأة، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124} [النساء: 124، وقال تعالى: " { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)} [إبراهيم: 42]

ثانيا: مجالات العدل في الإسلام: 

فصَّل القرآن الكريم مجالات العدل ولم يكتف بالأمر المجْمل بالعدل، فبيَّن أن من أوَّل مجالات العدل:

 أن يعدل الإنسان مع نفسه فيُعطي الجزء المادي من نفسه حقه من طعام وشراب ومسكن وملبس، ويعطي الجزء الروحي أو المعنوي من نفسه حقه الروحي المتمثل بعبادة الله تعالى وحده ولا يظلمها بحرمانها من الإيمان بالله تعالى وتلبيه حاجتها إليه، ويغذي عواطفه بكل أنواع المشاعر والحب الصادق لله تعالى وللناس.

ومن مجالات العدل في الإسلام إعطاء الناس حقوقهم في البيع والشراء دون خسران في الكيل والميزان، ودون أن يبخس الناس حقوقهم التي يستحقونها، قال تعالى: " {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) } [الشعراء: 182، 183]

ومن مجالات العدل في الإسلام العدل مع غير المسلم في حقوقه فاختلاف الدين في الإسلام ليس مبرراً أبداً للظلم وعدم إعطاء الناس حقوقهم، قال تعالى: " {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة: 8]. ولنا في العهدة العمرية لمسيحيي أهل القدس خير مثال.

ومن صور العدل في الإسلام العدل في خلق مخلوقات الكون، فقد  أعطى سبحانه كل مخلوق بالعدل فأعطاه ما يحتاج إليه ليؤدي وظيفته بكل عدل، فلا يطغى مخلوق على مخلوق، قال تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر"، وقال تعالى: " {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) } [الحجر: 19، 20]، فبالعدل قامت السماوت والأرض وبه تقوم حياة الناس.

 ومن أهم مجالات العدل في الإسلام العدل في القضاء بين الناس عند حدوث الخلافات، قال تعالى: " {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرً} [النساء: 58]، ومن صور العدالة في هذا المجال مجال القضاء في العقوبات على مرتكبي الجرائم أن يتم التأكد بالبينات من ثبوت جرمهم دون إكراه أو شبهة، وأن لا تطبق العقوبة إلا على الجاني، قال تعالى: "ولا تزر وازرة وزر أخرى".

ومن صور العدل المهمة في الإسلام العدل في المجال الاقتصادي، حيث يتم توفير وظائف العمل في الدولة بالعدل بين المواطنين، ويُعطى الفقراء والمساكين في الدولة حاجتهم من المال، وقد فرض الإسلام الزكاة لتحقيق ذلك، ولا شك أن الظلم الاقتصادي أحد أهم أسباب عدم استقرار المجتمعات والدول.

ومن صور العدل، العدل في المجال الاجتماعي فيعدل الآباء بين أبنائهم في المعاملة وفي حقوقهم في التربية والاهتمام والنفقة، حتى لا يتسلل الحسد والغيرة والحقد والمشاكل في الأسرة.

ومن صور العدل، العدل بين الناس عند الإصلاح، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]

- ومن مجالات العدل المهمة، العدل في القول: "قال تعالى: " {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ} [الأنعام: 152]، والعدل بالقول يكون بقول الحقيقة عند السؤال أو الشهادة وإعطاء الناس حقوقهم حتى لو كان الخصم من أقرب الناس إلينا. 

وما أحوجنا في هذا العصر الذي انتشرت فيه وسائل التواصل الاجتماعي وتعددت وسائل نشر المعلومات من التأكد من المعلومات التي نسمعها عن الآخرين وخاصة أصحاب الأديان فكثير من هذه المعلومات غير صحيح وفيه ظلم، والتقاطه دون تبين وتثبت سيؤدي إلى أن نُصدر أحكاماً ظالمة بحق الآخرين.

ومن صور العدل المهمة في الإسلام، العدل في مجال البيئة، بما فيها من نبات وماء وأشجار، وهواء...، ولا شك  أن جور الإنسان في استعمال موارد البيئة وشجعه وظلمه سيؤدي إلى فساد البيئة وخرابها، قال تعالى: " {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) } [الروم: 41]، ويمتد العدل في الإسلام ليشمل الحيوانات، فقد أخبرنا رسولنا الكريم أن امرأة دخلت النار؛ لأنها حبست هرة ورتكتها دون أن تطعهما.

ثالثا: على ماذا يدل تعدد مجالات العدل في الإسلام؟ وما موقف الإسلام من الظلم؟

إن تعدد مجالات العدل في الإسلام بهذه الصورة الكبيرة يدل على أن قيمة العدل قيمة مركزية يجب تحقيقها في كل المجالات.

أما موقف الإسلام من الظلم: يعتبر الإسلام الظلم جريمة من أكبر الجرائم ويجب محاربته ومنعه بكل الوسائل المشروعة، وتوعد سبحانه الظالمين بأشد أنواع العقوبات في الدنيا والآخرة ليرتدعوا عن ظلم الناس وأخذ حقوقهم، كما أن الإسلام أمر الناس بعدم السكوت عن الظلم وأمرهم بالسعي بكل قوة لأخذ حقوقهم.

رابعا: آثار تحقيق العدل في المجتمعات في الإسلام

إن تحقيق العدل أساس الملك فاستقرار الدولة وتنمية مواردها، وشيوع الأمن، والانتماء للوطن، كلها آثار من أهم آثار العدل في المقابل فإن فساد العمران بمعنى هجر الكفاءات لأوطانها، وخراب التنمية في كل المجالات، وضعف الانتماء للوطن كلها نتائج وخيمة لغياب العدل.

العدل بين الناس في الحكم والقضاء ومنع الظلم سيؤدي إلى محاربة الجريمة واستقرار المجتمع؛ لأن المجرم يعلم أن لن يفلت من الجزاء العادل، وبالتالي يكون العدل ضامناً من أهم ضمانات محاربة الجريمة واستقرار الأمن في المجتمع.

العدل بين الأبناء في الأسرة وبين الزوجين سيؤدي إلى وجود أسرة قوية متماسكة، تنتشر بينها المحبة والتعاون.

العدل في التعامل مع الآخرين سيؤدي إلى أن يأخذ كل إنسان حقه دون ظلم أو اعتداء على الناس، ولنا في العهدة العمرية لمسيحيي أهل القدس خير مثال.

العدل يؤدي إلى قوة العلاقات بين أفراد المجتمع خاصة المجتمع الذي تتعدد فيه الديانات والطوائف والأحزاب المعارضة.

وأخيراً من أهم آثار تحقيق العدل في المجال الفردي، التوازن في حياة الإنسان عندما يعطي كل جانب من جوانب نفسه حقها، فلا تطغى عليه الحياة المادية، ولا تطغى عليه الحياة الروحية، فيعيش حياة مستقرة دون قل واضطرابات، وصدق الله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمةً وسطًا"، فالوسط وهو من أن معاني العدل يعني أن يعيش الإنسان دون إفراط أو تفريط في أحد مجالات حياته على حساب الآخر.

وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل العدل والحق الذين يقفون مع قضايا العدل وعلى رأسها قضية فلسطين وحق الفلسطينين العادل في إقامة دولتهم في أرضهم وعاصمتها القدس عاصمة العدل والسلام

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

د. عامر جود الله
مدرس في كلية الشريعة وعضو الهيئة الاستشارية في مركز النجاح للدراسات الدينية